فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كأنما جللها الحواك ** طنفسة في وشيها حباك

وممن نقل عنه هذا القول الكلبي والضحاك.
وقال بعض أهل العلم: ذات الحبك أي ذات الخلق الحسن المحكم، وممن قال به ابن عباس وعكرمة وقتادة.
وهذا الوجه يدل عليه قوله تعالى: {لَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3- 4] إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول فالحبك مصدر، لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه، تقول فيه العرب: حبكه حبكًا بالفتح على القياس. والحبك بضمتين بمعناه.
وقال بعض العلماء: ذات الحبك: أي الزينة.
وممن روي عنه هذا سعيد بن جبير والحسن، وعلى هذا القول، فالآية كقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في ق في الكلام على قوله: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] الآية.
وقال بعض العلماء: ذات الحبك أي ذات الشدة، وهذا القول يدل هل قوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12].
والعرب تسمى شدة الخلق حبكًا، ومنه قيل للفرس الشديد الخلق: محبوك.
ومنه قول امرئ القيس.
قد غدا يحملني في أنفه ** لاحق الأطلين محبوك ممر

والآية تشمل الجميع، فكل الأقوال حق والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قول مُّخْتَلِفٍ} [الذاريات: 8] أي إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وشأن القرآن، لأن بعض يقول: هو شعر، وبعضهم يقول: سحر، وبعضهم يقول: كهانة، وبعضهم يقول: أساطير الأولين، وقول من قال في قول مختلف أي لأن بعضهم مصدق، وبعضهم مكذب خلاف التحقيق.
ويدل على أن الاختلاف إنما هو بين المكذبين دون المصدقين. قوله تعالى في ق {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق: 5] أي مختلف. وقال بعضهم: مختلف، والمعنى واحد.
وقوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9] أظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري، أن لفظه عن في الىية سببية كقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قولكَ} [هود: 53] أي بسبب قولك، ومن أجله، والضمير المجرور بعن راجع إلى القول المختلف، والمعنى يؤفك أي يصرف عن الإيمان بالله ورسوله عنه، أي عن ذلك القول المختلف أي بسبه من أفك أي من سبقت له الشقاوة في الأزل، فحرم الهدى وأفك عنه، لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضًا ويناقضه.
ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه اختلافه وتناقضه كما لا يخفى، فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام، الذي يقول فيه بعضهم: إن الرسول ساحر، وبعضهم يقول شاعر، وبعضهم يققول: كذاب. ظاهر البطلان لتناقضه وتكذيب بعضه لبعض، فلا يصرف عن الإسلام بسببه غلا من صرف، أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه.
وهذا المعنى جاء موضحًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [الصافات: 161- 163] ومعنى هذه الآية أن دين الكفار، الذي هو الشرك بالله وعبادة الأوثان، مع حرصهم على صد الناس عن دين الإسلام إليه ما هم بفاتنين، أي ليسا بمضلين عليه أحدًا لظهور فساده وبطلانه إلا من هو صال الجحيم، أي إلا من قدر الله عليه الشقاوة وأنه من أهل النار في سابق علمه، هذا هو الظاهر لنا في معنى هذه الآية الكريمة.
وأكثر المفسرين على أن الضمير في قوله: {يُؤْفَكُ عَنْهُ} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن، أي يصرف عن الإيمان بالنبي أو القرآن، من أفك أي صرف عن الحق، وحرم الهدي لشدة ظهور الحق في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن منزل من الله، وهذا خلاف ظاهر السياق كما ترى.
وقول من قال: يؤفك عنه. أي يصرف عن القول المختلف الباطل من أفك، أي من صرف عن الباطل إلى الحق لا يخفى بعده وسقوطه.
والذين قالوا: هذا القول يزعمون أن الإفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل، وعن الباطل إلى الحق، ويبعد هذا أن القرآن لم يرد فيه مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)}.
لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه على أن سبب نيل هذه الجنات والعيون هو تقوى الله والسبب الشرعي هو العلة الشرعية على الأصح، وكون التقوى سبب دخول الجنات الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في آيات آخر في كتاب الله كقوله تعالى: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًا} [مريم: 63] وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين} [النحل: 31].
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الجاثية.
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)}.
اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء، فذهبت جماعة من أهل العلم، أن المراد أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر وهو أنزل من السماء، ويكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر، لهذا المعنى كقوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السماء رِزْقًا} [غافر: 13] وقوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السماء مَّن رِّزْقٍ} [الجاثية: 5] الآية.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة المؤمن.
وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق.
وقال بعض أهل العلم: معنى قوله: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة، والله جل وعلا يدبر أمر الأرض من السماء، كما قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ} [السجدة: 5] الآية. قوله تعالى: {وَمَا تُوعَدُونَ}، ما، في محل رفع عطف على قوله: {رِزْقُكُمْ}، والمراد بما يوعدون، قال بعض أهل العلم: الجنة، لأن الجنة فوق السماوات، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح، لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك كما قيل:
وقد يسمى سماء كل مرتفع ** وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور، قال فيه:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

قال له صلى الله عليه وسلم «إلى أين يا أبي ليلى» قال: إلى الجنة، قال: «نعم إن شاء الله».
وقال بعض أهل العلم: وما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء، كما بيناه في القول الثاني في المراد بالرزق في الآية، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب لهذا القول الثاني في معنى الرزق.
وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع، فمن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوي أنه قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خربة يمكث ثلاثًا لا يصيب شيئًا، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن منه نية، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت.
ومن ذلك أيضًا: ما ذكره الزمخشري في تفسير هذه الآية قال: وعن الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بين أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمان. فقال: اتل علي فتلوت: والذاريات فلما بلغت قوله تعالى: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ} قال: حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسة فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفتق أطواف فإذا أنا بمن يهتف بن بصوت رقيق فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل أصغر فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت {فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى الجؤوه إلى اليمين، قائلًا ثلاثًا، وخرجت معها نفسه انتهى. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}..
هو بيان للجزاء الذي يجزى به الفريق الآخر، الذي يقابل فريق الخرّاصين المكذبين.. فقد جاء قوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قول مُخْتَلِفٍ} مبينا موقف الناس من الإيمان بالبعث والجزاء، وأنهم فريقان مختلفان، مؤمنون وكافرون، مصدقون ومكذبون..
وقد جاء التعقيب على هذا، بما يلقى الكافرون المكذبون، من عذاب ونكال، فأخذوا دون إمهال إلى جهنم..
ثم جاء بعد ذلك المؤمنون، المصدّقون بالبعث والجزاء، ففتّحت لهم أبواب الجنة، وسيق إليهم فيها ما تشتهى أنفسهم من نعيمها..
وقوله تعالى: {آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ}.
أي يتقبلون من ربهم ما يساق إليهم من ألطاف، وما يقدم إليهم من ألوان النعيم، مما لم يكن يخطر لهم على بال، أو يقع لهم في أحلام..
وفى مدّ اللّه سبحانه وتعالى لهم يده الكريمة بهذا الإحسان، وفى تناولهم هذا الإحسان من ربهم- في هذا ما فيه من تكريم لا يناله إلّا المقربون، الذين رضى اللّه عنهم، جعلنا اللّه سبحانه وتعالى منهم، إنه ذو الفضل العظيم..
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ} هو بيان للأسباب والوسائل، التي توسل بها هؤلاء المكرمون من عباد اللّه، إلى هذا النعيم العظيم الذي هم فيه، وذلك أنهم كانوا قبل ذلك اليوم، أي يوم القيامة، وهو الدنيا- كانوا محسنين، فلقيهم اللّه بإحسان مضاعف، كما يقول سبحانه: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ} (60: الرحمن).
قوله تعالى: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ}..
هو بيان مفسّر لإحسان هؤلاء المحسنين.. فقد كان من إحسانهم أنهم يذكرون ربهم، لا يكادون يغفلون عن ذكره، ولا يعطون أنفسهم حظها من النوم.. فإذا نام الغافلون، قطعوا هم ليلهم ترتيلا، وتسبيحا، وصلاة، وذكرا.. والهجوع، هو النوم القليل، وهو ما يسمى بالغرار، كما يقول:
ما أذوق الليل إلا غرارا مثل ** حسو الطير ماء السّمال

و{ما} في قوله تعالى: {ما يَهْجَعُونَ}.
. إما مصدرية، أي كانوا على حال قليل فيها من الليل هجوعهم. وإما موصولة، والمعنى: كانوا على حال قلّ فيها الزمن الذي يهجعون فيه من الليل.
قوله تعالى: {وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الأسحار، جمع سحر، وهو آخر الليل..
استغفارهم في آخر الليل، الذي قطعوه تسبيحا وذكرا، وترتيلا وصلاة- إشارة إلى أنهم يرون أن ما قاموا به من تسبيح وذكر، وصلاة، وترتيل- لم يستوف ما للّه من حق عليهم، في عبادته وتسبيحه، فهم لهذا يستغفرون ربهم، ليتجاوز عن تقصيرهم في حقه..
قوله تعالى: {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أي ومن أعمال هؤلاء المؤمنين المصدقين باللّه ورسوله، واليوم الآخر- أنهم يشاركون الناس فيما في أيديهم من مال، ويرون أن في هذا المال الذي أعطاهم اللّه، حقّا لكل محتاج، من سائل، يطلب، أو محروم يتعفف عن السؤال..
قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تنعى على هؤلاء الضالين المكذبين، كفرهم وضلالهم الذي فوّت عليهم هذا النعيم الذي أعده اللّه للمؤمنين، وأنهم إذا كانوا قد استكبروا على أن ينقادوا لرسول اللّه، وأن يستجيبوا لما يدعوهم إليه من هدى- أفلا كانت لهم عيون تنظر في هذا الوجود، وتطالع ما فيه من آيات تشهد بما للّه سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان، وعلم وحكمة؟
إنه كما في يد الرسول آيات ناطقة بالحق، داعية إليه- كذلك هناك آيات أخرى في الأرض، وفى السماء، وفى كل ما خلق اللّه، تشهد بأن اللّه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل.. ولكنهم لشقوتهم قد أصمّوا آذانهم عن سماع كلمات اللّه، وأغمضوا أعينهم عن النظر في كتاب الوجود، فكفروا، وضلّوا.. فكان مأواهم جهنم وساءت مصيرا.
وفى قوله تعالى: {لِلْمُوقِنِينَ}- إشارة إلى أنه لا ينتفع بتلك الآيات الكونية، ولا يقع على مواقع الهدى منها، إلا أهل اليقين، الذين يطلبون العلم والمعرفة، بالبحث الجادّ، والنظر المتفحص، فإذا وقع لهم من ذلك علم، كان علمهم عن برهان وحجة، فيقع منهم ذلك العلم موقع التثبت واليقين.. فهم- والحال كذلك- لا يتّبعون الأهواء، ولا يتابعون أهل الضلال..
قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي إذا كنتم أيها المكذبون الضالون، قد كلّت أبصاركم عن أن تنظر في صفحة هذا الوجود، وأن تمتد إلى أبعد من مواطىء أقدامكم، فإن ذلك لا يحول بينكم وبين الوصول إلى الدليل على قدرة اللّه وسلطانه القائم على الوجود، وإنه ليكفى أن تنظروا في ذات أنفسكم، فإن في أنفسكم عالما رحيبا، وكونا فسيحا.. وإنه ليكفى أن يقيم أحدكم بصره على مسيرته في الحياة، من وجوده نطفة إلى أن صار رجلا.. إنكم ستجدون في هذا سجلّا حافلا بالآيات الدالة على قدرة الخالق، وعلى حكمته، وعلى بديع صنعه، وحكمة تدبيره..
والاستفهام هنا توبيخ وتعنيف، لهؤلاء الذي عموا عن مشاهد القدرة الإلهية، وآثارها الناطقة في كل ما خلق الخالق جلّ وعلا..
قوله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} أي، وانظروا في السماء، فهى أوضح صورة، وأجلى بيانا مما في الأرض أو في أنفسكم.. إن فيها أسباب رزقكم، وملاك حياتكم، بما ينزل منها ماء، وما يجرى فيها من شمس، وقمر، وكواكب، ونجوم.. بل إن فيها عرش اللّه، وفيها ملائكته، وفيها مقدّرات الأمور.. فكل ما يجرى على الناس وغيرهم من شئون، هو منزّل من علوّ. كما يقول سبحانه، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقًا} (13: غافر) وكما يقول جل شأنه: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} (2: النحل).. والتنزيل لا يكون إلا من جهة عالية.. فالسماء هنا، إشارة إلى جلال اللّه، وعظمته، وعلوّ مقامه، وقيومته على هذا الوجود..
قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} بعد أن أقسم اللّه سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته، توّج هذه الأقسام جميعها بالقسم بذاته العلية جلّ شأنه، واصفا ذاته الكريمة، بأنه رب السموات والأرض ومدبّر أمرهما.. والمقسم عليه هنا، كلّ ما وقعت عليه الأقسام السابقة، من صدق ما يوعد الناس به من بعث ودينونة، وحساب وجزاء، وما جاء من أخبار عن نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، ثم ما أخبر به جل شأنه، من أنه المالك للأرزاق، والمقدّر لها، كما أنه مالك يوم الدين، وما يلقى الناس في هذا اليوم..